الصحة في مهب رياح السياسة.. كيف قُوّض الحق في المعلومات الطبية خلال عهد ترامب؟

الصحة في مهب رياح السياسة.. كيف قُوّض الحق في المعلومات الطبية خلال عهد ترامب؟
وزير الصحة الأمريكي مع الرئيس دونالد ترامب

في واحدة من أكثر اللحظات إرباكاً في النقاشات حول الصحة العامة في الولايات المتحدة، يجد الأمريكيون أنفسهم اليوم أمام مشهد متشابك يتسم بتراجع إمكانية الوصول إلى المعلومات الصحية الموثوقة وتسييس القرارات الطبية الحساسة، ففي عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومع وجود وزير الصحة الحالي روبرت كينيدي الابن، باتت الخيارات الصحية المستنيرة أكثر صعوبة، في ظل تزايد التدخلات السياسية في تحديد ما يتاح من بيانات وإرشادات صحية، وما يُحجب أو يُعدّل على نحو يتعارض مع الأسس العلمية.

بدأت الأزمة بشكل متدرج منذ الأيام الأولى لإدارة الرئيس ترامب، عندما استُهدفت بشكل مباشر الموارد الفيدرالية المرتبطة بالصحة العامة، خصوصاً تلك المتعلقة بالهوية الجندرية والصحة الإنجابية وحقوق الفئات المهمشة، بحسب “هيومن رايتس ووتش”. وقد أدى ذلك إلى إزالة آلاف الصفحات الإلكترونية ومجموعات البيانات التابعة لوزارة الصحة والخدمات الإنسانية، وهو ما خلق فجوة في قدرة المواطنين على اتخاذ قرارات مدروسة بشأن الرعاية الصحية. وبرغم استعادة بعض هذه الموارد لاحقاً بفضل دعاوى قضائية، فإن الضرر كان قد وقع بالفعل، وأدى إلى تقويض الثقة بين المواطن والجهات الصحية الفيدرالية.

اعتبارات سياسية وأيديولوجية

تجلت خطورة هذا النهج حين تبنت الإدارة في سبتمبر 2025 إرشادات مثيرة للجدل تنصح النساء الحوامل بتجنب تناول دواء شائع مثل الأسيتامينوفين، رغم غياب إجماع علمي يدعم ذلك. وأثارت هذه التصريحات موجة من القلق حول مصير القرارات الصحية إذا ما بقيت تُبنى على اعتبارات سياسية وأيديولوجية بدلاً من الأدلة الطبية. وبالنسبة للمنظمات الحقوقية، مثل هيومن رايتس ووتش، فإن هذه الخطوات لا تمثل مجرد سوء إدارة، بل تعد انتهاكاً مباشراً للحق في الصحة الذي يضمنه القانون الدولي لحقوق الإنسان، والذي يشمل حق الأفراد في الحصول على معلومات دقيقة لاتخاذ خياراتهم الطبية بحرية.

القانون الدولي، ولا سيما العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، يفرض التزاماً على الحكومات بتمكين الناس من الوصول إلى أعلى مستوى من الصحة البدنية والعقلية الممكنة، وهو ما لا يتحقق إلا من خلال ضمان توافر معلومات علمية موثوقة. وفي الحالة الأمريكية، يرى خبراء القانون الصحي أن تعطيل الموارد الفيدرالية أو توجيهها بما يتفق مع أجندة سياسية يمثل تقويضاً لهذه الالتزامات الدولية، ويضع ملايين المواطنين أمام خطر مباشر يتمثل في تلقي معلومات مضللة أو غير مكتملة حول قضايا حياتية.

الاستقلالية العلمية

إلى جانب ذلك، قادت سياسات الإدارة إلى إضعاف الاستقلالية العلمية داخل المؤسسات الرسمية، فقد تم حل العديد من اللجان الاستشارية التي كانت تقدم توصيات قائمة على الأدلة بشأن التحصينات والصحة العامة، وبلغت الأزمة ذروتها في يونيو الماضي عندما أقال وزير الصحة جميع أعضاء اللجنة الاستشارية لممارسات التحصين، ما أثار ردود فعل غاضبة من الجمعية الطبية الأمريكية. وبعد أشهر، جاءت توصيات اللجنة الجديدة المعيّنة سياسياً لتقليص نطاق لقاحات أساسية مثل لقاح كوفيد-19 واللقاح المركب للحصبة والنكاف والحصبة الألمانية والحماق للأطفال، ما أثار قلقاً واسعاً من تراجع معدلات التطعيم، وهي قضية ترتبط مباشرة بالأمن الصحي الوطني.

المشهد لم يقتصر على الجدل حول اللقاحات، فعمليات التسريح التي طالت وزارة الصحة والخدمات الإنسانية أدت إلى انخفاض ملاحظ في إنتاج الموارد الصحية وتحديثها، خاصة في مجالات الصحة الإنجابية وحقوق النساء، وتشير تقارير طبية إلى أن الولايات المتحدة تسجل واحدة من أعلى معدلات وفيات الأمهات بين الدول المتقدمة، حيث يبلغ المعدل نحو 23 وفاة لكل 100 ألف ولادة حية، وترتفع النسبة بشكل مقلق بين النساء السود لتتجاوز 55 وفاة لكل 100 ألف، في ظل هذه الأرقام، فإن تقليص البرامج الموجهة لمعالجة هذه الفجوات يعمّق الأزمة، ويجعل الفئات الأكثر هشاشة عرضة لمخاطر كبرى.

ردود الفعل 

منظمات دولية مثل منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة تابعت بقلق هذه التطورات، إذ تعتبر أن وصول المواطنين إلى معلومات صحية قائمة على الأدلة يشكل شرطاً أساسياً لمواجهة الأزمات الصحية، سواء تعلق الأمر بجائحة كوفيد-19 أو تفشي أمراض معدية مثل الجدري المائي (Mpox). ووفق تقارير طبية حديثة، فإن أي اضطراب في تدفق المعلومات قد يؤدي إلى تراجع الثقة العامة باللقاحات وتدني نسب الإقبال عليها، وهو ما ينذر بعودة أمراض كان يُعتقد أنها باتت تحت السيطرة.

ردود الفعل المحلية لم تخلُ من تحركات مضادة. فقد انضمت عدة ولايات إلى تكتلات إقليمية لإصدار توصيات صحية مستقلة عن الحكومة الفيدرالية، بالاعتماد على الجمعيات الطبية. لكن هذه التحركات وإن بدت تصحيحية، فإنها خلقت واقعاً جديداً من التشرذم في المشهد الصحي، حيث تختلف السياسات من ولاية إلى أخرى، ما يعمق من إرباك الجمهور، ويزيد من صعوبة الحصول على معلومات متسقة وموحدة. وفي الوقت ذاته، ذهبت ولايات مثل فلوريدا إلى إلغاء جميع متطلبات التطعيم للمدارس الحكومية، الأمر الذي يفتح الباب أمام مخاطر صحية جماعية يصعب التكهن بنتائجها على المدى البعيد.

الفئات الخاسرة

من منظور إنساني، فإن الخاسر الأكبر من هذه التحولات هي الفئات التي طالما واجهت معوقات هيكلية في الحصول على الرعاية الصحية، مثل النساء، والأقليات العرقية، والمجتمع الكويري. وهذه الفئات تعتمد بشكل كبير على الموارد الفيدرالية لتجاوز التمييز والقيود الاجتماعية والاقتصادية التي تحد من خياراتها الصحية. وعندما تُستهدف المعلومات الموجهة إليها بشكل مباشر أو تُحجب، فإن النتائج تكون مضاعفة في حرمانها من الحق في الوصول إلى الرعاية الصحية المتكافئة.

التاريخ الحديث للصحة العامة الأمريكية يظهر أن استقرار السياسات الصحية مرتبط ارتباطاً وثيقاً باستقلالية المؤسسات العلمية عن الضغوط السياسية، فبعد أزمة الإيدز في الثمانينيات، أدرك صناع القرار أهمية الاعتماد على الأدلة العلمية لتعزيز التثقيف الصحي، وهو ما أسهم في الحد من انتشار الفيروس. واليوم، ومع عودة النزعة السياسية إلى السيطرة على الأجندة الصحية، يخشى الخبراء تكرار أخطاء الماضي، لكن في سياق أكثر تعقيداً تتخلله أزمات وبائية جديدة وصعود النزعات الشعبوية.

في المحصلة، تضع هذه التحولات الولايات المتحدة أمام اختبار صعب يتمثل في كيفية إعادة بناء الثقة بين المواطنين ومؤسساتهم الصحية، ويؤكد خبراء الصحة العامة أن الطريق نحو ذلك يمر عبر استعادة الشفافية وضمان إتاحة المعلومات الطبية القائمة على الأدلة، بعيداً عن الأيديولوجيات السياسية. أما الاستمرار في تسييس الصحة العامة، فإنه يهدد، ليس فقط حق الأمريكيين في الحصول على خيارات صحية مستنيرة، بل يضع أيضاً مستقبل الصحة العامة العالمية على المحك، بالنظر إلى الدور المركزي للولايات المتحدة في تمويل البحوث والدعم الصحي الدولي.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية